أنا من هواة الطبيعة وعشاقها. أحب التجوال في الجبال ..الوديان ..الصحاري ، ونتيجة لهذا العشق جُبتُ مناطق كثيرة في السلطنة من أقصى شمالها إلى أقصى الجنوب ومن شرقها إلى غربها. عشقت طبيعتها.. أشجارها.. نباتاتها.. وتنوعها.. وبالتأكيد ناسها. وفي محافظة ظفار التي أقيم فيها، جبت كل ولاياتها ومناطقها ما عدا جزر الحلانيات ربما لخوفي من البحر.
منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى الآن حصلت تطورات وتغييرات كثيرة على البيئة المحيطة بي شخصياً وبالتأكيد الجميع يحس بمدى التغيرات التي طرأت على البيئة المحيطة بنا. هذه التغييرات نتجت بسبب متطلبات الحياة الجديدة التي بدأت منذ بزوغ النهضة في يوليو 1970م. زيادة الدخل و عدد السكان الذي تطلب شق الطرق وبناء المدن والمصانع والشوارع وزيادة عدد السيارات وعمليات التنقيب كل ذلك أثر بشكل مباشر على البيئات حولنا. كنا معذورين في البداية بسبب قلة التعليم وقلة الوعي وضرورة التغيير، كنا معذورين عندما تعدينا على البيئة بسبب جهلنا، أما الآن وقد زاد الوعي وأصبحت شريحة كبيرة من الشباب هم أصحاب القرار، فنحن غير معذورين وحكومتنا غير معذورة إذا أخطأت تجاه البيئة.
هذه المقدمة تمهيد لما وعدت به في التدوينة الماضية عن وصف ما رأيت في وادي صيق وهو وصف لحالة يمكن أن تنطبق على الكثير من مثيلاتها في مناطق مختلفة من المحافظة وحتى في عموم مناطق السلطنة الأخرى. فكنت قد وعدت بذكر الأهوال التي رأيتها في ذلك الوادي. بطبيعة الحال ليست هناك أهوال تعرضت لها بالمعنى الحرفي للأهوال وإنما أهوال تعرّضَتْ لها بيئة الوادي. فهناك طريق جديد يتم الآن شقه من "أرجوت" عبر وادي صيق إلى صرفيت. هذا الطريق يتم الآن شقه في منطقة محاذية للطريق الحالي ونتيجةً لذلك تمت إزالة الكثير من الأشجار بشكل قاسٍ جداً ولا أدري على أي أساس تم إعطاء الشركة ترخيص لشق الطريق بهذه الطريقة التي أراها بشعة جداً دون شروط. فالأشجار يتم اقتلاعها شأنها شأن الأتربة والحجارة دون أن يستفاد منها بإعادة غرسها في مكان آخر ودون أن يستفيد منها أحد كأصحاب المشاتل وحتى المواطنين العاديين. كما أنه كان بالإمكان إلزام الشركة المنفذة للمشروع بإزالة الأشجار بطريقة مختلفة بحيث يمكنها غرسها في مكان آخر وفي البيئة نفسها القريبة من مكان اقتلاعها وبإشراف جهات حكومية أخرى كوزارة الزراعة أو الديوان. إعادة الغرس ستكون ذات فائدة من ناحيتين؛ الأولى هي المحافظة على الأشجار نفسها والثانية تقليل انجراف التربة الناتج عن الأمطار الفجائية كالتي حدثت يوم 20 يناير الجاري.
رغم أن المنطقة تمر بفترة جفاف قاسية والأشجار بدأت في مناطق كثيرة بالجفاف والتصحر إلا أن المشاريع الخدمية(ومنها هذا المشروع) التي تقام بين الحين والآخر لم يتم فيها مراعاة لمشكلة البيئة بل بالعكس يتم التعامل مع البيئة وكأننا في منطقة غابات استوائية ماطرة.
لا أنكر مدى الحاجة لتحسين هذا الطريق لأنه خطر جداً في حالة الأمطار ولا توجد به أي حماية من التربة والصخور التي تنزلق وقت الأمطار. ولكن يجب أن لا يدفعنا ذلك للانتقام من البيئة بهذه الطريقة. . إن ما يجري الآن أعتبره كارثة بيئية ولا يمكن أن أضيف أكثر من أنه كارثة. ومع كل هذا لا يزال المشروع في بدايته.
عندما وصلت إلى تقاطع الطريق مع الوادي في أسفله وجدت عين ماء (أعتقد أن اسمها "عين آغسي" أو المغسيل) تجري نتيجة لنزول الوادي. بطبيعة الحال كان منظر الماء وهو يناسب بين الأشجار والصخور يبعث البهجة والراحة النفسية للمارة ومرتادي الوادي من الأسر التي فضلت تناول الغداء بالقرب من مصدر الماء وتحت الأشجار وإن كانت السماء لا تزال ملبدة بالغيوم. لكنني أخشى على هذه العين من المشروع الجاري تنفيذه.
واصلت المسير باتجاه حفوف حيث بدأت في صعود ضفة الوادي الأخرى وعيني لا تزال تنظر بين الحين والآخر إلى الأشجار التي تنتظر دورها في الاقتلاع خاصة وأن هذه الضفة التي لم يصلها الدور بعد هي الأكثف من ناحية الغطاء الشجري. وصلت إلى حفوف التي تشرف على إحدى أجمل الغابات في جبل القمر والتي تمتد(الغابة) من خضرفي إلى مدينة ضلكوت. يوجد في حفوف تجمع سكاني بسيط مع مدرسة تخدم حفوف والقرى المجاورة، كما توجد بها دكاكين بسيطة للمواد الغذائية. لم أتوقف في حفوف بل واصلت الصعود باتجاه حموت التي تقابل معسكر صرفيت من الجهة الشرقية. كلما تقدمت باتجاه حموت كلما قل الغطاء النباتي وصغرت الأشجار نظراً لضعف الخريف في هذه المنطقة وربما نظراً للطبيعة الصخرية للمنطقة نفسها. ولكن حتى هذه المنطقة المهددة بالتصحر لم تسلم من اللامبالاة من ناحية تأثير المشاريع الخدمية على بيئتها وغطائها النباتي. ففي الوقت الراهن يتم شق خط لأنابيب المياه من حفوف إلى حموت بمحاذاة الطريق ولكن المساحة التي تم إزالة الغطاء النباتي منها تكفي لمرور شاحنة كبيرة أي أنه أصبح هناك شارع موازي للشارع الحالي!!.
نزلت من حموت باتجاه ديم وفي الطريق لم اتفاجأ بإزالة الشركة نفسها لأعداد هائلة من أشجار بأحجام أكبر من أحجام أشجار وادي صيق. لا يزال منظر جذوع الأشجار المزالة والمجمعة على جانب الطريق لا يزال ذلك المنظر ماثلاً أمام عيني. رجعت من ديم باتجاه ضلكوت عن طريق خضرفي وقد كان منظر الغابة ساحراً خاصة أشجار الصبار(تمرهندي) الطويلة المتناثرة على جانبي الطريق. وصلت مدينة ضلكوت واتجهت مباشرة للمطعم الذي يقدم وجباتنا المعتادة(برياني قبولي كبسة مندي..). أخذت قبولي بالسمك لأن سمك ضلكوت دائماً طازج (خاصة الكنعد ومحد يسألني ليش اخترت الكنعد؟)ورجعت باتجاه شجرة جميلة تقع إلى الشرق من المدينة في مكان مطل على بحر العرب. هذه الشجرة تسمى الباوباب وبالجبالية تسمى "هيروم ذيري" أي الشجرة الغريبة. هذه الشجرة لا توجد لها شجرة مثيلة في جبل القمر على ما أعتقد وهي شجرة ذات جذع عريض جداً. يوجد نفس النوع من الأشجار في الشرق في ولاية مرباط وتحديداً في وادي حشير. الوادي الذي تعرض لجريمة نكراء من قبل الشركات التي تناوبت على رصفه. الغريب أن نفس الشركة التي تشق طريق صيق هي نفس الشركة التي تقوم الآن برصف طريق حشير الذي يربط بين مدينة مرباط وطوي أعتير. وقد عاثت هذه الشركة في الأشجار والتربة فساداً لا مثيل له شأنها شأن من سبقها من الشركات لنفس المشروع. المهم أنني تغديت في إحدى الاستراحات القبيحة التي أنشأتها وزارة السياحة بجنب الشجرة الغريبة.
بعد الغداء الذي تناولته بلا نفس رجعت أدراجي في نفس الطريق لأكتئب في نفس اليوم مرتين... كنت قد أتيت لأستمتع بالأمطار فرجعتُ باكتئاب محترم.
النهاية