عندما تبدأ الرطوبة في صلالة تبدأ الكآبة المحفيفية. لا أدري هل أنا الوحيد من تبدأ كآبته تتبلور في هذا القيظ أم أن العدالة القيظية شاملة. من حبي للجميع تمنيت أن تتوزع "الكآبة القيظية" بحيث يكون نصيبي منها متساوٍ مع الجميع(إيثار :)).
بالفعل جالس أحاول مقاومة كآبة الجو التي ألقت بظلالها على كل شيء، ليس هذا العام وإنما كل عام.. الرطوبة القيظية أصبحت عدوي.
في هذا الفصل أحكم على يومي من خلال توقيت قيامي من النوم. إذا صادف وقمت متأخر يدور حوار شديد بيني وبين نفسي يقضي على الوقت الذي أقضيه بين البيت والعمل وينتهي بخلاصة أن هذا اليوم "قد يحمل مفجآت غير سارة". طبعا هذا ناتج عن ظني أنني الوحيد -في صلالة- المتأخر عن العمل لأتفاجأ بأن الشارع مزحوم بسبب بقية المتأخرين عن أعمالهم. أصبر نفسي بأني إنسان طبيعي لا يشذ عن بقية المجتمع آخذا بالحديث الذي يقول "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" وأنا من زمان أخاف من الذئب فأحاول تشجيع نفسي بلغة المبرمجين العصبيين: أنا مع الأغلبية إذاً أنا طبيعي.. سأكون مميزاً غداً :). عندما أصل إلى مواقف المؤسسة أجد أن سبب الكآبة وجيه جداً؛ المواقف ثم المواقف ثم المواقف.ولأن المواقف الظلية قد نفذت وبقية المواقف أيضاً مشغولة أجد نفسي لا شعوريا "أدعي على المعتصمين" الذين سببوا الزحمة عندنا في العمل. فبعد أن توظف في مؤسستنا أكثر من 50 شخصاً - كنتيجة من نتائج الاعتصامات- زادت 50 سيارة وهذا بدوره عمل زحمة شديدة في المواقف الأمر الذي يجعلني أكتئب إن تأخرت عن العمل. في هذه الحالة ليس لدي مجال إلا ترك سيارتي في الشمس الحارقة على قارعة الطريق.
أضع الشمسية وأتجه إلى البوابة بسرعة شديدة متجاهلاً مجموعة من الزملاء المتأخرين حتى أجتازها. أمارس عملي بشكل طبيعي وأكون في حالة أفضل إن كان العمل مكتبياً. أما إذا كان العمل ميدانياً أكون أكثر الناس إحساساً بهذا الفصل وقساوته. العمل في الرطوبة باللباس العماني أمر لا يحتمل. لابد من حل لهذه المعضلة. إذا استمرت الرطوبة بهذا الشكل لا بد أن يسقطوا عنا لبس "المصر" أو يخترعوا مراوح أو "مايكرو مكيفات" للمحافظة على ما تبقى من شعر لدينا. ينتهي يوم العمل وأكتشف أني لم أشرب ما يكفي من المياه فأذهب إلى المقهى الكئيب واشتري غرشة(قنينة) ماء مدموغة بـ "عماني" أي أن الماء الذي بين أيدينا صناااااااعة عمانية!!!. بصراحة تقدمنا في الكيمياء لدرجة أن شركاتنا العمانية ألفت بين ذرتي هيدروجين وذرة أكسيجين فتدفقت المصانع ماءً نفخر به.. مهما اكتأبت اختياري عماني.
أصل إلى سيارتي لأحس أني دخلت مايكرويف..أشم رائحة الحليب الرائعة فأعطس العطستين المعتادتين. أشغل المكيف للقضاء على كآبة الحر فيتلطف الجو بعد عدة دقائق. بمرور الوقت يتغير الجو داخل المقصورة فتبدأ الأشياء الجميلة بالتشكل وأعود إلى طبيعتي تدريجياً لأكتشف أني لم ألبس الحزام. ولأن ثقافتي من ثقافة المجتمع الذي يستمتع بمعاندة القانون والنظام لله فلله أظل في صراع مع ذاتي هل ألبس الحزام وأنا غير مقتنع فيه أثناء السواقة في المدينة أم ألبسه من أجل تجنب المخالفات أم ألبسه لكي أكون قدوة وأدعم الحملة الوطنية للحد من الوفيات في الحوادث، أم ألبسه لإرضاء شخص -أعزه واجد- ودائما ما يحثني على لبس الحزام؟!!. هذه التساؤلات تأخذ الكثير من الوقت.. في الأخير ألبس الحزام من أجل أحد الأسباب أو معظمها فتترنح السيارة وسط الشارع ويبدأ مهرجان التصفير من الأمام والخلف.
لأنني لا أنام بعد الدوام اكتشفت أن لدي استراتيجية لا إرادية لمحاربة الكآبة بعد الخروج من الدوام وهي الذهاب إلى كورنيش صلالة(الحافة). طبعا لأسباب جينية لا أحب صوت موج البحر الشديد رغم استمتاعي بزرقة البحر ونصاعة بياض شاطئ الحافة على وجه التحديد لذا أظل في سيارتي وأمر ببطء شديد على طول الشاطئ موزعاً النظر بين المحيط الهندي والشاطئ وجزر أشجار النارجيل بين البيوت والبيوت والبحر. أنظر إلى بيوت الحافة التي ستُعدم بعد حين. حينما أنظر للبيوت التي تم بناءها بعد الـ 70 أو على النمط الحديث أجد نفسي غير متأسف على إزالة معظم هذه البيوت التي لا تحمل هوية المنطقة شأنها في ذلك شأن بقية البيوت في مدننا لكنني أشعر بالحزن تجاه الذين أجبروا على ترك بيوتهم وذكرياتهم هناك.
في طريقي إلى البيت تصادفني بعض المواقف التي أفضل عدم ذكرها.
أصل البيت.. أتغدى.. أشاهد التلفاز حتى العصر.. أبدأ في وجبة القراءة.. أحاول تجنب الكتب الكئيبة قد الإمكان.. تأتيني رسائل بشكل كثيف(ربما أفرد تدوينة عن علاقتي بهاتفي:)) تتخللها بعض الأحيان أخبار وفيات تذكرني بأحد الزملاء الذي يتحجج دائما بأنه ذاهب "لحضور دفن فلان أو فلانة" رغم أني أعلم انه يذهب في مواعيد مشبوهة.
بعد المغرب تبدأ رحلة الصيف(رحلة الشتاء إلى الكورنيش) وهي السهر في أحد المقاهي الجبلية. شخصيا أفضل مطعم كهف إتين رغم خدمته السيئة لأن موقعه جميل وقريب من البيت، فمنه تبدو صلالة متلألئة كالعروس وفيه تتحرك نسمات البحر بحرية تعطي كوب الشاي الأحمر قيمة إضافية.. نقضي السهرة في نقاشات "بجية" غير منظمة ولا تخلو من خبث ونميمة بعض الأحيان.
أرجع إلى البيت..أشاهد التلفزيون المحلي لأجد أن عنوان قضية اليوم(متابعة قضية) في أخبار العاشرة تتعلق بالسياحة في ظفار. لا أدري ماذا كان القصد من الاتصال الذي أجراه التلفزيون مع وكيل السياحة؟!!.. يبدو أنه بطلب من السياحة. كان هناك قبل أكثر من شهر في نفس الأخبار تقرير عن السياحة في ظفار والمرافق السياحية وفقرها والأراضي التي صرفت ولا تزال فضاء رغم مرور عدة سنوات على استلامها تحت شعار الاستثمار السياحي!! وكان هناك لقاء مع أحد مدراء العموم في السياحة ولم يكن هناك جديد حيث تحدث عن المشاريع السياحية في ظفار ولم يعطِ المبررات التي دفعت وزارة السياحة لعدم استرجاع الاراضي المصروفة. أعتقد أن الوكيل ظن أن التلفزيون تعمد إخفاء المشاريع العظيمة التي تقوم بها السياحة في هذا الجزء من الوطن فقرر التواصل والتذكير بها.. تكلم الوكيل عن مشاريع لن تكتمل خلال هذا العام ولا العام القادم بينما المذيع كان يسأل عن هذا العام وما ستقدمه السياحة من جديد للسائح.. فهمت من المذيع أنه كان يسأل عن ماذا ستقدم السياحة للسياح في الخريف القادم أي بعد شهر، كما فهمت من المذيع أنه يعتقد ان الوكيل يقصد أن المشاريع ستكون في متناول السائح هذا العام.. انتهت المكالمة بدون أي جديد غير التذكير بنفس المشاريع التي سمعنا عنها من مكتب المحافظ والبلدية ومهرجان الخريف ووزارة الصحة والصحافة والأخبار المحلية والسوق المركزي.. مللنا من تصريحات المسئولين وتكرار الحديث عن نفس المشاريع(مارينا صلالة.. عالم صلالة.. المستشفى السياحي المرتقب).. لم يبق أحد في عمان لم يسمع بهذه المشاريع العظيمة. طبعا عالم صلالة لم يكتمل وكذلك صلالة مارينا أو ما يعرف بمنتجع شاطئ صلالة كان من المفترض ان يبدأ افتتاح جزء بسيط منه 15 مايو الجاري حسبما سمعت من أحد موظفيه(مصري!!! تمصير الوظائف) بينما مشروع المستشفى السياحي(نسيت اسم المشروع) لا يزال على الورق بعد أن أهديت الأرض للمستثمر الذي سيأتينا بالمرضى ليشاركونا المضبي في الخريف. تركت التلفزيون ولجأت إلى الإنترنت فوجدت تصريح لمحافظ ظفار يذكر نفس المشاريع من ضمن تصريح له لوكالة الأنباء العمانية..أتمنى اختفاء هذه الظاهرة.. لازلت أتذكر تصريح معالي أحمد بن عبد النبي مكي بخصوص المشاريع في ظفار قبل عدة سنوات والضجة التي أثارها تصريحه..
طبعا تذكرت يومي الطويل وتأكدت أن تأخري البسيط عن الدوام كان هو السبب الرئيسي لكآبتي.
طبعا تذكرت يومي الطويل وتأكدت أن تأخري البسيط عن الدوام كان هو السبب الرئيسي لكآبتي.
*****
الهروب من صلالة إلى التلال في هذه الفترة يعتبر أحد الأسلحة الفعالة المضادة للكآبة القيظية.. كل عام والجميع بخير.
كذلك شعر نزار قباني يعتبر دواء للكآبة وأنصح به.. يقول نزار:
لم يبق في شوارع الليلمكانٌ أتجول فيه.. أخذَت عيناك كل مساحة الليل
سؤال الحلقة: كم مرة وردت كلمتي طبعاً وكآبة في التدوينة أعلاه :)؟