لدينا من المشاكل الاجتماعية والثقافية ما يكفي لإنهاكنا وإعاقتنا لقرون وليس لسنين. وتعد قضية المرأة في مجتمعاتنا هي القضية الكبرى التي إن حلت ستتهاوى بعدها الكثير من المشاكل المتعلقة.
في مجتمعاتنا الصغيرة وخاصة هنا في ظفار هناك مشاكل كثيرة مرتبطة بوضع المرأة تؤثر بشكل مباشر على إنتاجية المجتمع. فرب البيت هو المسئول عن كل شئ وعليه أن يؤقلم عمله مع واجباته الاجتماعية التي دون شك تؤثر على إنتاجيته كموظف أو رب عمل. وعلى الرغم من عدم تحريم سياقة النساء للسيارات إلا أن أغلبية النساء يعتمدن على الغير في تنقلاتهن اليومية لقضاء حوائجهن الشخصية والاجتماعية الأمر الذي يجعل رب الأسرة تحت ضغط شديد يؤثر على أدائه في العمل وحتى على ارتقائه في سلم الوظيفة.
عندما كنت صغيرا كانت اﻷوضاع تختلف كثيرا عما هي عليه اليوم. نشأت في الريف حيث لكل فرد في تلك الفترة مهمة ويظل الجميع في عمل إلى نهاية اليوم بما في ذلك الأطفال. لم يكن هناك عمال يساعدون في الاعتناء بالحيوانات ومساكنها. كانت النساء تعتني بما يخص البيوت البشرية والحيوانية وتقوم برعي صغار الأبقار أو رعي اﻷغنام بينما يرعى الرجال اﻹبل واﻷبقار أو يسعون بين الحين والآخر لجلب الاعلاف والسردين والحاجيات اﻷساسية كالأرز والسكر من المدن. الاطفال يعملون في الرعي أيضا كمساعدين للكبار. لا يوجد وقت فراغ مستمر كالحاصل اﻵن. كانت الحياة عبارة عن تكرار وروتين مستمر لكن الجميع كان مشغول من الصباح إلى المساء ولا تكاد تصل الساعة إلى الثامنة مساء حتى "يرتمي" كل فرد في فراشه. ولا يكاد يعرف السهر إلا في مواسم معينة من العام.
تغيرت الحياة بقدوم السيارات ودخول أنماط جديدة على حياتنا واستقرت أسر كثيرة نتيجة لعدة عوامل منها توفر المياه، توفر المدارس، والوظائف، والسيارات. تحسن مستوى الدخل واستجلبنا عمال من آسيا ليكشفوا عن الكسل الكامن فينا فغدونا بلا مهام إلا القليل. أصبح معظم العائلة بلا عمل وزادت أوقات الفراغ وتنافست العوائل حتى في استجلاب الشغالات إلى البيوت فزاد عدد الغير منتجين لتتحول اﻷم(آخر الساموراي:)) إلى أثاث من أثاث البيت. فوق كل ذلك زاد عدد المواليد وقلت وفيات اﻷطفال فأصبحت العوائل أكبر وأكبر. مع كل ذلك أتت أمواج من التدين الصحراوي المنغلق تمجد جلوس المرأة في البيت وتحرم الإختلاط وعمل المرأة إلا في التدريس فتكدست النساء في البيوت. وفي خضم ذلك راجت عبارات
شهيرة؛ " المرأة جوهرة " و " الدين كرم المرأة" وهاتين العبارتين أصبحتا ترددان لﻹسكات والتخدير بقصد وبغير قصد.
وعلى الرغم من محاولات جهات حكومية عدة حلحلة الوضع على استحياء بترديد عبارة " المرأة نصف المجتمع" إلا أن عدم الإيمان بالعبارة من قبل قائليها من ناحية، وضعف طرق الإقناع التي أضعفت نتائج تلك المحاولات، أوقع المرأة تحت رحمة القانون الإجتماعي الموروث منذ قرون فزاد التخوف من " تحرر المرأة" باعتبار أنه مشروع غربي يستهدف بنية المجتمع المسلم وأخلاقه.
إذا رجعنا لفترة نهاية الستينات وبداية السبعينات وهي فترة كانت فيها "الثورة في ظفار" شبه مسيطرة على الجبال، إذا رجعنا لتلك الفترة نجد أن نهج الثورة قد مهد بشكل كبير لكسر صخرة تهميش المرأة بعد أن انتهج الفكر الماركسي. فقد كانت هناك قوانين إجبارية للمساواة بين طبقات المجتمع بما في ذلك المرأة. وإذا نظرنا اليوم إلى نتائج تلك الفترة سنجد أن الكثير من الزيجات قد تمت باختيار مباشر من المرأة لشريك حياتها مهما كانت طبقته أو طبقتها. بطبيعة الحال لم تكن الظروف جيدة في تلك الفترة لترجمة تلك المساواة؛ فلم تكن هناك فرص عمل أو سيارات أو ما يكرس تلك المساواة غير الزواج أو الانخراط في الأعمال المساندة للثوار في خطوط المواجهة. وهنا يجب أن أشير إلى أن التجاوب لم يكن قويا بحكم أنه لم يكن اختياريا 100% الأمر الذي أعقبه انتكاسه كبيرة بعد الهزيمة ناهيك عن الحملة الإعلامية الشعواء التي طالت النساء وسمعتهن من الطرف الآخر المنتصر. كل ذلك ساهم في تأخر بل وفشل الكثير من المحاولات لإشراك المرأة وتطوير ثقتها بنفسها. وأذكر هنا محاولات الحكومة فتح مكاتب للتنمية الاجتماعية خاصة بالنساء (في ثمانينيات القرن الماضي) في الأرياف الذي استقبل بالكثير من الفتور على اعتبار أن الحكومة بدأت تعيد أفكار الثورة من جديد.
من هنا نجد أن آليات إعطاء المرأة حقها واستقلاليتها يجب أن تكون أولوية خلال الفترة القادمة وذلك لن يتأتى إلا عندما نصل إلى قناعة "إلغاء الوصاية". وأقصد هنا بالوصاية العامة التي ننتهجها في حياتنا وفي ثقافتنا وفي اللاشعور فينا. نحن كمجتمع نعيش دوائر من الوصايات؛ وصاية الأب على كل أفراد أسرته، وصاية الذكر على الأنثى، وصاية الكبير على الصغير، وصاية رجل الدين على بقية الخلق، وصاية المدير على دائرته، والوزير على كل فرد في وزارته، ووصاية الحاكم على الشجر والحجر.
بطبيعة الحال الواقع أصعب من الكتابة عنه وأصعب بكثير من اقتراح الحلول ولكن لابد من الحديث عن معيقات التقدم من أجل أن نعي واقعنا بعيدا عن العاطفة. هذه المشكلة ننظر إليها ويتحدث عنها الإعلام من باب الترف أو من زاوية ضيقة تقتصر على الجانب الدعائي لإنجازات الحكومة وذلك الحديث لا يمكن أن يصل إلى نتائج ﻷنه لا يتطرق إلى لب المشكلة اﻷمر الذي يضخم المشكلة ويؤجل انفجارها وتأثيراتها العكسية.فعندما اشتغلت المرأة هلل الجميع ولكن عندما نظرنا إلى اﻹنتاجية وجدناها قليلة ﻷننا عاملنا المرأة في العمل بطريقة تحد من انتاجيتها وحشرناها في مكاتب بعيدا عن الأنظار وذلك بدوافع خلفيتنا الثقافية التي تنظر إلى المرأة من الزاوية الجنسية فقط( هنا أصف الوضع في ظفار حيث تجد النساء مختفيات في مكاتب وقد لا يتم إسناد أي مهام لهن وتجد هناك صعوبة في التواصل معهن "لأننا" نتعامل معهن كعورات ومشاريع زنا للأسف وقد يكون ذلك في مناطق أخرى في السلطنة باستثناء العاصمة التي يختلف فيها الوضع على الأقل من الزاوية المهنية وإيكال المهام).
إذا كانت هناك جدية في حل هذا الإشاكل لابد من تشجيع أو صنع ثقافة الاستقلالية للأفراد بما في ذلك المرأة ونشر الوعي وتشجيع ثقافة حرية التعبير ودفع المجتمع إلى المعرفة والتثقيف المعرفي بشتى أنواعه وفي كافة المجالات. لالإضافة إلى ذلك لابد من المبادرات والتضحيات في سبيل صنع واقع جديد ولابد من تحمل آلام تلك المبادرات.
يقول نزار:
أقاوم كلَّ أسواري ..
أقاوم واقعي المصنوعَ من قشٍّ وفُخَّارِ ..
أقاومُ كلَّ أهل الكهفِ ، والتنجيم ، والزارِ ..
تواكُلَهُم، تآكُلَهُم، تناسلَهُمْ كأبقارِ ..
أمامي ألفُ سيَّافٍ وسيافٍ وخلفي ألفُ جزارٍ وجزَّارِ ..
فيا ربي ! أليس هناك من عارٍ سوى عاري ؟
ويا ربي ؟ أليس هناكَ من شُغلٍ لهذا الشرقِ غير حدود زُنَّاري ؟