يبدو أن الاستعجال من سمات المجتمعات الأقل تقدما. ومع أنها - أي المجتمعات الأقل تقدما- تعتبر أقل احتراما للوقت مقارنة بغيرها لكنها لا تملك الصبر الكافي للعبور التدريجي المنطقي من مرحلة إلى أخرى كي تصل إلى أهدافها بسهولة ويسر ودون تعثرات كبيرة. تحاول( المجتمعات الأقل تقدما) أن تقفز على المراحل وتحرقها دون دراية أو دراسة مسبقة لذلك تتعثر وتتحطم على أول صخرة تصطدم بها نتيجة عدم وجود بوصلة ترشد الملاح إلى بر الأمان. لهذا تُبقي نفسها ردحا من الزمن في دوامة البحث عن الذات ولملمة الشتات لكنها سرعان ما تجد نفسها وبمحض إرادتها قد ارتمت في أحضان التسلط والقمع والديكتاتورية... وتبدأ في دوامة جديدة.
المجتمعات العربية تبدو من هذه المجتمعات وقد تكون هي الوحيدة صاحبة الصفة المتناقضة "البطء السريع" أو "الكسل الطموح". بطيئين في تغيير أنفسنا وسريعين في الرغبة بجني الثمار. لدينا كسل شديد في تحرير ذواتنا وفي نفس الوقت لدينا طموح شديد في تحرير بلداننا من الفساد وتحرير فلسطين واسترجاع الاندلس ووو إلخ. أمر محير..
**********
بعد انتهاء العام الأول من انطلاق الربيع العربي من تونس وبعد إسقاط أول رئيس (بن علي) هناك موجة من الإحباط الشديد تجتاح المواطن العربي خاصة في الأقطار التي انتصرت فيها الانتفاضات الشعبية. الإحباط الذي ظن أصحابه أن الأوضاع ستتغير مباشرة إلى الأفضل ودون عواقب بخلع رئيس ونظامه. لم تعرف هذه المجتمعات بعد أن المشكلة كانت مشتركة وأنه لو لم تكن سيئة أي المجتمعات لما حكمتهم الطواغيت أو الظلمة أو الفاسدين. على الشعوب التي ثارت على الطغاة والفاسدين أن ينتظروا فترة كافية للتصحيح لأن حياتهم لا تزال مبرمجة على طريقة الطاغية السابق ولن يكون الخروج من رحم الفساد سهلاً أو مفروشاً بالورود بل ستكون الولادة عسيرة وعليهم أن يضعوا احتمال تشوه الوليد كأحد الاحتمالات الرئيسية لما بعد الطاغية. وهذا يعني أن المكوث في كنف الدكتاتورية والسكوت عنها لفترة من الزمن يحول سلوك الناس ويغير قناعات جزء كبير منهم وبالتالي يحولهم إلى مشاركين في الديكتاتورية ولن يكون خروجهم منها فيما بعد سهلاً.
أعجبتني إجابة القاضي الذي حاكم صدام حسين في بداية محاكمته الشهيرة (رزكار محمد أمين) عندما سألته صحفية في جريدة الأهرام المصرية ( اضغط هنـــا) عن رأيه في محاكمة حسني مبارك بتهمة الفساد السياسي فقال:" ...أما من ناحية المنطق العقلي فيستحيل ان يتحمل شخص او عدة اشخاص مسؤولية الفساد في30 سنة متعاقبة, وأين كان الشعب ؟ الم يكن شريكا بصمته على الأقل ؟ سكوت الناس وفساد النخبة و تصفيق المنافقين وتضليل اصحاب الرأي و الدجل السياسي جميعهم شركاء في الجريمة, وجميعهم ساهموا في صناعة الديكتاتور, ويتحملون مسؤولية الظلم والفساد معه"".
هذا يعطينا مؤشر على أن المحاكمة يجب أن تطال من ساهم في الفساد وكرسه حتى وإن كان ساكتاً أو غير منتفع من الفساد العلوي بشكل مباشر.. لماذا؟ لأنه كان مساهماً فيه بالسكوت عنه. بمعنى آخر يجب محاكمة الجميع والحكم عليهم بقدر مساهمتهم.. أي يجب محاكمة الشعوب أيضاً.
كنت أظن أن هذه المجتمعات -وخاصة في تونس- أكثر وعياً ودراية واستقراءً للأحداث. كنت أظن أن المواطن التونسي يعي أن تبعات تغيير النظام ستكون مزلزلة ولن تستطيع أي حكومة احتوائها في غضون سنوات بسيطة فما بال الشاب التونسي يستعجل الثمار بهذه السرعة؟!!
تابعت عبر إذاعة BBC العربية الذكرى الأولى للثورة العربية أو ما يسمى بالربيع العربي الذي بدأ من تونس. كان الحوار مع مواطنين من تونس. تونس التي بدأت منها الشرارة ولم تنتهِ بعد. من خلال الحوارات البسيطة التي استمعت إليها لاحظت تشاؤم وتذمر من الوضع العام ومن المحصلة إلى الآن بشكل لم استوعبه كون النتيجة الطبيعية لما حصل لن تكون إلا كما هو الوضع الآن؛ زيادة عدد العاطلين عن العمل وتدني الانتاج العام وانتشار ظواهر لم تكن موجودة في المنشآت الحكومية والجامعات كظهور المنقبات مثلاً إلى غير ذلك من الظواهر التي لابد أن تعقب زوال نظامٍ ما وظهور آخر معاكس له في كل شيء. تحدث معظم الشباب عن زيادة عدد العاطلين عن العمل وتسلط الأمن وكثرة الوعود الفارغة وأبدى الكثير منهم الخوف من المستقبل بسبب بوادر سيطرة الإسلاميين على المشهد السياسي في البلاد. لاحظت من مجمل الكلام فيه نبرة استعجال لجني الثمار وعدم وجود "نفس طويل" لدى الشاب التونسي على عكس ما توقعت.. لقد ظن الجميع أن التغيير عبارة عن كبسة زر وستتغير بعدها الأوضاع إلى المثالية المطلقة.
نفس المشهد يتكرر في مصر وبالطبع في ليبيا التي تحولت إلى قبائل متحاربة.. الجميع مستعجل جني ثمار الثورة ومن حقهم ذلك لكن لا بد من تهيئة الشعوب للنفس الطويل إذا أرادت تغييراً مبنياً على أرضية قوية.
********
هنا في عمان ومن خلال متابعتي لما يدور في المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي لاحظت نفس الاستعجال من قبل البعض خاصة أولئك الذين يلوحون بعودة الاعتصامات إذا لم يتم حوار جاد بين الحكومة والمواطن لأن المطالب لم تتحقق ولأن الحكومة تماطل.
بطبيعة الحال من حق المواطن أن يطالب بحقوقه وأن يكافح من أجلها وأن ينتقد أداء الحكومة وأن يشير إلى أخطائها وفسادها إذا ارتكبت أخطاء من هذا النوع أو تغاضت عن الفساد والمفسدين.. من حقه أن يرفع صوته. في نفس الوقت عليه أن يُخلي طرفه من الفساد والسلوك الفاسد وأن يكون عملياً وأن يكون منطقياً في طموحه. لا يمكن أن نطلب من الحكومة اسئصال الفساد من مجتمع غارق في الفساد ونهددها في نفس الوقت بالاحتجاج والتظاهر إن لم تقضِ عليه في يوم وليلة بينما لم نلزم أنفسنا عملياً بتركه ونبذه قبل أن نطلب من الآخرين -الذين لم يأتوا من كوكب آخر- نبذه.
نعم أعرف أن الحكومة في يدها المال والعتاد لرسم سياسات واضحة تحد من الفساد وأن بإمكانها وضع خطط قصيرة وطويلة المدى لخلق أرضية ومناخ مناسبين لطرد الفساد من حياة المواطنين ولكن ذلك لن يتم في الوقت الراهن ما لم يغير المواطن العادي سلوكه وينبذ الفساد أو على الأقل يبدي نوع من الاستعداد لذلك. عندها سيجبر -أي المواطن- الحكومة على خلق قوانين تجرم الفاسد وتجعله يحسب ألف حساب قبل أن يقترف أي جرم.
على المواطن أن يسعى إلى تغيير ذاته أولاً وفي نفس الوقت أن يراقب الأداء الحكومي ويطالب الحكومة بالتصحيح وأن يضغط عليها قدر استطاعته كي يحصل منها على أفضل أداء فالمسئولية مشتركة ولا يمكن أن نرمي اللوم على طرف ونبرئ الآخر.. كما تكونون يولَّ عليكم ولا يمكننا الاعتقاد بأن التغيير مجرد كبسة زر والسلام بل هو تدرج .. كفاح داخلي في ذات الفرد ثم كفاح خارجي في محيطه.